Tuesday 23 April 2013

السودانيين ديل !!


اربعة اسابيع اخلصت في التخطيط لها مدة عام كامل. اربعة اسابيع محكمة لا مجال فيها للتفريط بساعة واحدة. اردتها زادا لعام مقبل، فما زادتني الا شوقا و لهفة. 

وددت لو اعوض بعض تقصيري تجاه وطني. ان اضيف فكرة او بسمة. اردت ان اعيش تلك التفاصيل الدافئة: نكهة الشاي الاحمر على شارع النيل تحت النيمة، متعة الونسة مع عم ابراهيم غفير هندسة، صحن الفول المظبط في الجان، حوار تلقائي مع سائق تاكسي عن الاوضاع السياسية و ضيق المعيشة...


اقلعت الطائرة وانا استنشق الهواء بعمق مستشعرة رائحة الوطن كلما اقتربت منه. 
ملات صدري برائحة امي، و بطني بطعامها. اشبعت جلدي دفئا تحت شمس بلادي، واستعددت لتنفيذ الخطة.  

الاسبوع الاول:
اردت ان ابدا فوراً ولكن سرعان ما انقضى الاسبوع بين رسم الحناء، و تقديم العزاءات، و مباركة الزيجات، و زيارة ابنة خالة زوجة عمي الكسرت رجلها، وابن عم زوجة خال زوجي بمناسبة المولود الجديد.  

الاسبوع الثاني:
اليوم الاول و الثاني و الثالث تمكنت من الافلات حتى وصلت باب الشارع وهناك وجدت (ا،ب، ج) قادمون لزيارة اخواتي، فعدت ادراجي لتقديم واجب الضيافة.  
اليوم الرابع و الخامس و السادس و السابع (س،ص،ع، م، ن، و) من الاهل و الاصدقاء قدموا للترحيب بعودة ابي من الخارج. 
هكذا ممارساتنا الاجتماعية، لا اخطار... لا مواعيد مسبقة... 
انتصفت الاجازة و اصبت بالهلع! فقررت ان اكسر التقاليد والا اتقيد بضيف لم ياتي لزيارتي خصيصاً! 

الاسبوع الثالث:
فاجاني السؤال "عملتي الرقم الوطني؟"  
اليوم الاول: الكمبيوتر بايظ
اليوم الثاني: الكاميرا اتكسرت 
اليوم الثالث: الظابط عنده بكا 
اليوم الرابع: جيرانا عندهم بكا 
اليوم الخامس: فلان في المكتب عيان و ما جا 
اليوم السادس و السابع: عطلة نهاية الاسبوع ! 
و استسلمت.... 

الاسبوع الرابع: 
(س،ع،ا،ج) زيارات...
(ب، د، ص) اعراس...
(ح،ط،ك،ن) بكيات...
حنانة...
كوافير...
سفر!

عدت الى ديار الغربة وانا احمل اشواقاً فوق اشواقي. عدت وبيني وبين مذاق فول الجان اربعة سنوات. 
هل عدت من اجازتي في السودان صفر اليدين؟ بالطبع لا، فقد تشبعت احداثا اجتماعية صاخبة ساظل اجترها حيث لاحدث سوى اجازتي المقبلة. 
هل انجزت شيئا من مخطط العام السابق؟ ايضاً لا، فقد كنت مشغولة بان اثبت لنفسي و للمجتمع انني لازلت جزء منه رغم الغياب. 

كان امامي خياران: الانجاز او المجامله فاخترت الاخير، حالي حال اي سوداني يستسيغ حلاوة حياتنا الاجتماعية و يستمرا مضغها. لم يكن الخيار الاكثر صوابا و لكنه الاكثر سهولة. فالارادة السودانية تتقزم فور دخولها حيز التنفيذ، حيث تتحول لترس اخر في عجلة حياتنا الاجتماعيه.
 الخيار الصحيح ان نربط الحزام و نتخلى عن ترفنا الاجتماعي. ما نراه اليوم من تدني على مستوى البلاد اداريا ماهو الا سنام هرم قاعدته فشلنا في ادارة حياتنا و ترتيب اولوياتنا فرديا. 

لست ابالغ حين اقول ان حياتنا الاجتماعية حضارة تفوقنا فيها على كثير من الامم. فهي تميزنا كشعب و تشبع حوجتنا ككائنات اجتماعية لدرجة تفقدنا المقدرة على الانصهار في اي وسط ذو حضارة مجتمعية دونها، وهو ما نلمسه لدى ابناء الوطن في اراضي الغربة. حتى هناك (وانا اتحدث عن تجربة شخصية في الدول العربية و الاوروبية) تجدنا نمارس تلك العادات بتفاصيلها (الطااااعمه).

ولكن ان تركنا المتعة الذاتية التي تحققها لنا حياتنا الاجتماعية جانباً، ماهي القيمة الحقيقية التي تضيفها لنا كمجتمع؟ 
 فهي قطعاً لا تصب في خانة التكافل الاجتماعي. هو ترابط خادع ظاهره الرحمه وباطنه الفقر والجوع. اعجز عن استشعار  التكافل في اسرة فقيد ايام العزاء حيث تكون نموذج للمثل القائل "ميته و خراب ديار". او في امراة تذهب للكوفير لتضع على كفيها رسم حناء خصيصا لتقديم العزاء،  متجاوزة في بابه طفل يتوسل حقه في الطعام، و كانه خماسي الابعاد لا تراه العين المجردة من المنطق و المغشية بالعادات و المجاملات.

كنت قد تطرقت في مقال سابق لتعبير اجده الاكثر استفزازاً لدينا كمواطنون سودانيون. يبدا التعبير بكلمتي "السودانيين ديل" و ينتهي ب"مامنهم فايده" او "ما نافعين" او فيما معناه، حيث يحمل المتحدث (نحن) المخاطب (برضه نحن) مسؤولية التخاذل في التصدي للوضع المتردي للبلاد سياسيا كان ام اقتصاديا. قد يكون هذا التعبير نتاج سلبية ولامبالاة، استعلاء، او حتى اجنده سياسية خفية! ولكني مؤخرا استنتجت بعدا جديدا يبدو الاكثر واقعية في نظري. المتحدث في هذه الحالة لايستثني نفسه كعضو فاعل في المجتمع وانما يعطي نفسه العذر بالمشغوليات. هو يفترض ان المخاطب ممن سواه لا يعايش نفس الظروف و المسؤوليات! و بذلك يفترض ان (المخاطب) بعكسه هو (المتحدث) يمتلك الوقت الكافي للتخطيط و التدبير و العمل على سودان افضل! وهنا مربط الفرس، كلمتي (الوقت + الكافي)

فحياتنا الاجتماعية خفيفة الظل ولكنها ثقيلة الوزن في التفاصيل اليوميه و ما العمر الا مجموعة ايام و ما اليوم الا مجموعة ساعات لابد من استثمارها بعناية شديده ان اردنا تغيير واقعنا نحو الافضل. لا باس في بعض الانانية البناءة في التعامل مع المجاملات. فالاولوية لابد ان تكون للقمة العيش و بالتالي الاتقان في العمل، و من ثم للاسرة و بالتالي بناء قوام السودان القادم، ثم الاقرب فالاقرب. 

التغيير مرهون بنا كافراد و لابد ان نستقطع من حياتنا اليوميه زمنا كافيا للتفكير و التخطيط و من ثم التنفيذ. زمنا مستقطعا من ترابطنا الاجتماعي، قد نخسر بعضاً من هويتنا ولكننا سنكسب وطن! خيار صعب دون شك و لكنه ضرورة ... لا اعذار... لا تواكل... لا تخاذل. "السودانيين ديل" مخيرون و ليسوا مسيرون... فلنحسن الاختيار!